فصل: سلطنة الملك العزيز على مصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


ثم أصبح يوم الخميس ثالث عشر شهر ربيع الأول عملت الخدمة السلطانية وحضرها الأمير وكانت الخدمة السلطانية قد تركت من مدة أيام فأجراهم السلطان الملك لعزيز على عادته من السكات وعدم الكلام وانفض الموكب‏.‏

ثم طلع الأمير قرقماس من الغد في يوم الجمعة وحضر الصلاة مع السلطان بالمقصورة من جامع القلعة ولم يطلع الأتابك جقمق‏.‏

ونزل قرقماس ولم يتكلم مع السلطان كلمة واحدة‏.‏

ثم في يوم السبت عملت الخدمة أيضًا بالقصر على العادة وحضر الأمير الكبير‏.‏

ثم في يوم الاثنين عملت الخدمة أيضًا‏.‏

كل ذلك بتدبير قرقماس وهو أنه لما علم أن الأمير الكبير جقمق تم أمره ولم يبق له منازع يعيقه عن السلطنة أخذ في عمل الخدمة حتى يجد نفسًا من الملك العزيز أو من أحد من حواشيه حتى تصير له مندوحة لمطاولة الأتابك على السلطنة لأنه ندم على ما تفوه به ولم يجد لنفسه قوة حتى يرجع عن قوله لقوة شوكة الأتابك وكثرة أعوانه ممن اجتمع عليه من الطوائف لا سيما الطائفة المؤيدية فإنهم صاروا عصبًا له وغيرية على قرقماس لما كان بين قرقماس وبين الأمير دولات المحمودي المؤيدي من العداوة قديمًا لسبب السكات عنه أليق ودولات هو يومذاك عين المؤيدية ورئيسهم غير أن جميع طائفة الناصرية كانت مع قرقماس في الباطن لكونه خجداشهم ولكن هم أيضًا ممن كان انضم على الأتابك وصار لهم به إلمام كبير فلم يظهروا الميل لقرقماس قي الظاهر مخافة أن لا يتم أمره وينحط قدرهم عند الأتابك فصاروا يلاحظونه بالقلب والخاطر لا بالفعل والقيام معه والأتابك جقمق يعرف جميع ذلك غير أنه يتجاهل عليهم تجاهل العارف لقضاء حاجته - انتهى‏.‏

ولما عملت الخدمة في هذه الأيام ولم يحصل لقرقماس غرضه عاد إلى رأيه الأول من الكلام في سلطنة الأتابك جقمق‏.‏

وألح عليه حتى أجابه صريحًا‏.‏

وكان في هذه الأيام كلها كلما طلع الأمراء إلى الخدمة السلطانية ينزل الجميع من القصر بعد انقضاء الخدمة إلى الأمير جقمق ويأكلون السماط عنده‏.‏

فلما كان آخر خدمة عملت عند الملك العزيز يوسف في يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الأول نزل قرقماس من عند السلطان مع جملة الأمراء واجتمع بالأمير الكبير وألح عليه بأنه يتسلطن في اليوم المذكور فلم يوافقه جقمق على ذلك وواعده على يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول‏.‏

ووافقه جميع الأمراء على خلع الملك العزيز وسلطنته إلا آقبغا التمرازي فإنه أشار عليه أن يؤخر ذلك ويتجرد إلى البلاد الشامية ويمهدها كما فعل الملك الظاهر ططر ثم يتسلطن مخافة من عصيان النواب بالبلاد الشامية عليه عقيب سلطنته قبل أن يرسخ قدمه فرد قوله قرقماس وأشار بسلطنته في يوم الأربعاء ووافقه على ذلك جماعة المؤيدية فتم الأمر على ما قاله قرقماس‏.‏

وكان الحزم ما قاله آقبغا التمرازي وبيانه أنه لولا أن سعد الملك الظاهر جقمق حرك قرقماس للركوب في غير وقته لكان قرقماس انتصر عليه لكثرة من كان انضم عليه من المماليك الأشرفية وغيرهم وأيضًا لولا استعجال إينال الجكمي في صدمته العساكر المصرية لكان تم أمره لعظم ميل الناس إليه‏.‏

وأما تغري برمش نائب حلب فكان مسكه على غير القياس فإنه كان تركمانيًا ووافقه جماعة كبيرة من التركمان مع قوته وكثرة ماله فكان يمكنه أن يتعب الملك الظاهر جقمق بتلك البلاد طول عمره فلهذا أشار آقبغا التمرازي بسفره قبل سلطنته‏.‏

وقد حسب البعيد ونظر في العواقب فلم يسمع الملك الظاهر له وتسلطن وقاسى بعد ذلك شدائد وأهوالًا أشرف منها غير مرة على زوال ملكه لولا مساعدة المقادير وخدمة السعد لما سبق له في القدم‏.‏

ولما كان يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة خلع الملك العزيز يوسف من الملك وتسلطن الأمير الكبير جقمق العلائي وتلقب بالملك الظاهر حسبما يأتي ذكره في أوائل سلطنته‏.‏

وكانت مدة

 سلطنة الملك العزيز على مصر

أربعة وتسعين يومًا‏.‏

ولم يكن للملك العزيز في السلطنة إلا مجرد الاسم فقط ولم تطل أيامه ولا تحكم في الأمور لتشكر أفعاله أو تذم وإنما كان آلة في الملك والمتصرف غيره لصغر سنه وعدم أهلية مماليك أبيه‏.‏

ولما خلع الملك العزيز أدخل إلى الدور السلطانية واحتفظ به وسكن بقاعة البربرية أشهرًا حتى تسحب منها ونزل إلى القاهرة واختفى أيامًا كثيرة حتى ظفر به وحبس بالقلعة أيامًا قليلة ثم نقل إلى سجن الإسكندرية حسبما يأتي ذكر ذلك كله مفصلًا في ترجمة الملك الظاهر جقمق إن شاء الله تعالى‏.‏

واستمر الملك العزيز بسجن الإسكندرية على أجمل حال وأحسن طريقة من طلب العلم وفعل الخير إلى يومنا هذا أحسن الله عاقبته بمحمد وآله‏.‏

وهو ثاني سلطان لقب بالملك العزيز من ملوك مصر والأول‏:‏ العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب والثاني‏:‏ العزيز هذا‏.‏

وهو أيضًا ثاني من سمي يوسف من ملوك مصر فالأول السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب والثاني هذا والله تعالى أعظم‏.‏

سلطنة الظاهر أبي سعيد جقمق السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق العلائي الظاهري الجركسي وهو الرابع والثلاثون من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية والعاشر من الجراكسة وأولادهم‏.‏

تسلطن بعد خلع الملك العزيز يوسف ابن الملك الأشرف برسباي باتفاق الأمراء وأعيان المملكة على سلطنته‏.‏

ولما تم أمره استدعي الخليفة المعتضد بالله داؤد والقضاة الأربعة والأمير قرقماس أمير سلاح وسائر الأمراء وجميع أعيان الدولة إلى الحراقة بباب السلسلة من الإسطبل السلطاني وجلس كل واحد في مجلسه‏.‏

فافتتح الأمير قرقماس بالكلام مع الخليفة والقضاة بأن قال‏:‏ ‏"‏ السلطان صغير والأحوال ضائعة لعدم اجتماع الكلمة في واحد بعينه‏.‏

ولابد من سلطان ينظر في مصالح المسلمين وينفرد بالكلمة ولم يكن يصلح لهذا الأمر سوى الأمير الكبير جقمق هذا ‏"‏‏.‏

فقال جقمق‏:‏ ‏"‏ هذا لا يتم إلا برضا الأمراء والجماعة ‏"‏‏.‏

فصاح الجميع‏:‏ ‏"‏ نحن راضون بالأمير الكبير ‏"‏‏.‏

فعند ذلك مد الخليفة يده وبايعه بالسلطنة ثم بايعه القضاة والأمراء على العادة‏.‏

ثم قام من فوره إلى مبيت الحراقة ولبس الخلعة الخليفتية السوداء وتقلد بالسيف وخرج ركب فرسا أعد له بأبهة السلطنة وشعار الملك وحملت على رأسه القبة والطير حملها الأمير قرقماس أمير سلاح والأمراء مشاة بين يديه وسار إلى أن طلع إلى القصر السلطاني بقلعة الجبل وجلس على تخت الملك وقبل الأمراء الأرض بين يديه على العادة‏.‏

وكان جلوسه على تخت الملك في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة على مضي سبع عشرة درجة من النهار المذكور والطالع برج الميزان بعشر درجات وخمس وعشرين دقيقة وكانت الشمس في السادس والعشرين من السنبلة والقمر في العاشر من الجوزاء وزحل في الثاني والعشرين من الحمل والمشتري في السابع عشر من القوس والمريخ في الخامس من الميزان والزهرة في الحادي عشر من الأسد وعطارد في الرابع عشر من السنبلة والرأس في الثاني من الميزان‏.‏

أصل الملك الظاهر جقمق وقدومه إلى مصر ونسبته بالعلائي ثم بالظاهري فنقول‏:‏ كان جاركسي الجنس وأخذ من بلاده صغيرًا فاشتراه خواجا كزلك وكزلك بفتح الكاف وسكون الزاي وفتح اللام وكسرها وسكون الكاف الثانية‏.‏

وجلبه خواجا كزلك المذكور إلى الديار المصرية فابتاعه منه الأتابك إينال اليوسفي وقيل ولده أمير علي بن إينال المذكور وهو الأصح ورباه عنده وأرسله مع والدته إلى الحج‏.‏

ثم عاد جقمق إلى القاهرة في خدمة والدة أمير علي المذكور وكانت والدة أمير علي متزوجة بشخص من الأجناد من أمير آخورية السلطان يسمى نغتاي‏.‏

ونغتاي بفتح النون والغين المعجمة وبعدهما تاء مفتوحة وألف وياء ساكنة‏.‏

ولما قدم جقمق إلى القاهرة أقام بها مدة يسيرة وتعارف مع أخيه جاركس القاسمي المصارع وكان جاركس يوم ذاك من أعيان خاصكية أستاذه الملك الظاهر برقوق فكلم جاركس الملك الظاهر برقوقًا في أخذ جقمق هذا من أستاذه أمير علي بن إينال فطلبه الملك الظاهر منه في سرحة سرياقوس وأخذه وأعطاه لأخيه جاركس إنيًا بطبقة الزمام من قلعة الجبل‏.‏

وقد اختلفت الأقوال في أمر عتقه‏:‏ فمن الناس من قال إن أمير علي كان أعتقه قبل أن يطلبه الملك الظاهر منه فلما طلبه الملك الظاهر سكت أمير علي عن عتقه لتنال جقمق السعادة بأن يكون من جملة مشتروات الملك الظاهر وكان كذلك‏.‏

وهذا القول هو الأقوى والمتواتر بين الناس ولما يأتي بيانه‏.‏

ومن الناس من قال إنه كان في الرق وقدمه أمير علي إلى الملك الظاهر لما طلبه منه ولو كان حرًا يوم ذاك لاعتذر بعتقه‏.‏

وهذا أيضًا مقبول غير أن الذي يقوي القول الأول يحتج بأن الملك الظاهر جقمق هذا لما كان أمير طبلخاناه وخازندارًا في الدولة المؤيدية شيخ أخذ الشهابي أحمد بن أمير علي بن إينال اليوسفي وهو صغير ووقف به إلى السلطان الملك المؤيد وسأل السلطان فيه ليكون من جملة المماليك السلطانية فسأل المؤيد عن أحمد المذكور فقال جقمق‏:‏ ‏"‏ يا خوند هذا ابن استاذي أمير علي ‏"‏ فقال المؤيد‏:‏ ‏"‏ ومن أين يكون هذا ابن استاذك الملك الظاهر أعتقك بحضرتنا الجميع وأخرج لك خيلًا على العادة ‏"‏‏.‏

فقال جقمق‏:‏ ‏"‏ نعم هو كما قال السلطان غير أن أمير علي كان أعتقني قبل ذلك وسكت عن عتقي لما طلبني الملك الظاهر منه ‏"‏‏.‏

فغضب الملك المؤيد من ذلك ووبخه كونه أنكر عتاقة الملك الظاهر له واعترف بعتاقة أمير علي ولم ينزل لذلك أحمد المذكور في جملة المماليك السلطانية فأخذه جقمق عنده وتولى تربيته‏.‏

قلت‏:‏ وعندي اعتراض آخر وهو أنه يمكن أن الملك الظاهر كان هو الذي أعتقه وإنما أراد الملك الظاهر جقمق بقوله إن أمير علي أعتقه ليعظم الأمر على الملك المؤيد لينزل أحمد المذكور في جملة المماليك السلطانية لكثرة حنوه على أحمد المذكور ولم يدر أن الملك المؤيد يغضبه ذلك فإنه يقال في الأمثال‏:‏ ‏"‏ صاحب الحاجة أعمى لا يريد إلا قضاءها ‏"‏‏.‏

وكان الملك الظاهر جقمق في طبعه الرأفة والشفقة على أيتام الأجانب فكيف الأقارب ولا أستبعد ذلك - انتهى‏.‏

فنقول‏:‏ واستمر جقمق هذا عند أخيه بطبقة الزمام مدة يسيرة وأعتقه الملك الظاهر برقوق وأخرج له خيلًا وقماشًا على العادة بمفرده وهو أن بعض المماليك السلطانية من طبقة الزمام المذكورة توفي فقام جاركس في مساعدة أخيه جقمق هذا حتى أخذ له جامكيته وخيله‏.‏

وأعتقه الملك الظاهر ثم جعله بعد قليل خاصكيًا كل ذلك بسفارة أخيه جاركس المذكور‏.‏

واستمر جقمق خاصكيًا إلى مات الظاهر برقوق وصار ساقيًا في سلطنة الملك الناصر فرج ثم تأمر عشرة إلى أن خرج أخوه جاركس عن طاعة الملك الناصر فرج فأمسك السلطان جقمق هذا وحبسه بواسطة عصيان أخيه فدام في السجن إلى أن شفع فيه الوالد وجمال الدين يوسف الأستادار وأطلق من السجن‏.‏

ثم قتل جاركس فانكف جقمق هذا عن الدولة بتلطف إلى أن قتل الملك الناصر وملك شيخ المحمودي الديار المصرية فأنعم عليه بإمرة عشرة ثم نقله بعد سلطنته بمدة إلى إمرة طبلخاناه جعله خازندارًا كبيرًا بعد انتقال الأمير يونس الركني إلى نيابة غزة‏.‏

ثم نقل إلى إمرة مائة وتقدمة ألف في دولة المظفر أحمد ابن الملك المؤيد شيخ‏.‏

ثم صار حاجب الحجاب بعد الأمير طرباي في أواخر الدولة الصالحية محمد أو في أوائل الدولة الأشرفية برسباي‏.‏

ثم نقل إلى الأمير آخورية الكبرى عوضًا عن الأمير قصروه من تمراز بحكم انتقال قصروه إلى نيابة طرابلس في أوائل صفر من سنة ست وعشرين وثمانمائة وتولى الحجوبية من بعده الأمير جرباش الكريمي المعروف بقاشق‏.‏

ثم نقل من الأمير آخورية إلى إمرة سلاح بعد إينال الجكمي واستقر عوضه في الأمير آخورية الأمير حسين بن أحمد البهسني التركماني المدعو تغري برمش‏.‏

ودام على ذلك سنين إلى أن نقل إلى أتابكية العساكر بالديار المصرية‏.‏

عوضًا عن إينال الجكمي أيضًا بحكم انتقال الجكمي إلى نيابة حلب بعد عزل قرقماس الشعباني وقدومه على إقطاع إينال الجكمي مقدم ألف بالقاهرة‏.‏

فاستمر أتابكًا إلى أن مات الملك الأشرف برسباي في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة بعد أن أوصى جقمق على ولده وجعله مدبر مملكته إلى أن صار من أمره ما رقاه إلى السلطنة‏.‏

وقد ذكرنا ذلك كله مفصلًا غير أننا أعدناه هنا لينتظم سياق الكلام مع سياقه - انتهى‏.‏

ولنعد الآن إلى ما كنا فيه‏:‏ ولما جلس الملك الظاهر جقمق على تخت الملك وتم أمره وخلع على الخليفة وعلى الأمير قرقماس وقيد لهما فرسين بقماش ذهب ولقب بالملك الظاهر أبي سعيد جقمق‏.‏

ثم نودي في الحال بالقاهرة ومصر بسلطنته والدعاء له وأن النفقة لكل ملوك من المماليك السلطانية مائة دينار فابتهج الناس بسلطنته‏.‏

ثم أمر السلطان فقبض على الطواشي صفي الدين جوهر الجلباني الحبشي لالا الملك العزيز وهو يومئذ زمام الدار السلطاني وخلع على الزيني فيروز ثم أصبح في يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الأول المذكور خلع على الأمير قرقماس الشعباني الناصري - أمير سلاح المعروف بأهرام ضاغ - باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن نفسه وخلع على الأمير آقبغا التمرازي أمير مجلس باستقراره أمير سلاح عوضًا عن قرقماس المذكورة وخلع على الأمير يشبك السودوني حاجب الحجاب باستقراره أمير مجلس عوضًا عن آقبغا التمرازي‏.‏

وكان السلطان خير تمراز القرمشي رأس نوبة النوب في وظيفة أمير مجلس أو الأمير آخورية الكبرى فمال إلى الأمير آخورية الكبرى فخلع عليه بها عوضًا عن الأمير جانم الأشرفي بحكم حبسه بثغر الإسكندرية‏.‏

وخلع على أركماس الظاهري الدوادار الكبير باستمراره على وظيفة الدوادارية وعلى الأمير قراخجا الحسني الظاهري باستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن تمراز القرمشي وعلى الأمير تغري بردي البكلمشي المؤذي باستقراره حاجب الحجاب عوضًا عن يشبك السودوني وعلى الأمير تنبك البردبكي أحد أمراء الألوف باستقراره في نيابة قلعة الجبل ثاني مرة عوضًا عن تنبك النوروزي الجقمقي وخلع على الأمير قراجا الأشرفي فوقانيًا وهو آخر من بقي من مقدمي الألوف‏.‏

وباقي الإقطاعات شاغرة إلى الآن عن أصحابها‏.‏

وكتب بحضور الأمير جرباش الكريمي قاشق من ثغر دمياط وكان له به سنين كثيرة بطالًا‏.‏

ثم خلع السلطان على دولات باي المحمودي الساقي المؤيدي - أحد أمراء العشرات ورأس نوبة - باستقراره أمير آخور ثانيًا عوضًا عن يخشباي المقبوض عليه قبل تاريخه وعلى الأمير تنم من عبد الرزاق المؤيدي - أحد أمراء العشرات ورأس نوبة - باستقراره محتسب القاهرة عوضًا عن الإمام نور الدين السويفي وعلى قاني باي الجاركسي - الذي تأمر قبل تاريخه بمدة يسيرة - باستقراره شاد الشراب خاناه عوضًا عن علي باي الأشرفي بحكم القبض عليه واستمر على إمرة عشرة وعلى الأمير قاني باي الأبوبكري الأشرفي الساقي باستقراره خازندارًا عوضًا عن جكم خال العزيز بحكم القبض عليه أيضًا‏.‏

ثم أنعم السلطان على جماعة كثيرة جدًا باستقرارهم أمراء عشرات يطول الشرح في ذكرهم لأنها دولة أقيمت بعد ذهاب دولة وتغير جميع من كان من أرباب الوظائف الذين كانوا في الدولة الأشرفية من الخاصكية وغيرهم واستقر جماعة كبيرة رؤوس نوب منهم من خلع عليه قبل أن يلبس فوقاني الإمرة وهو إلى الآن بحياصة ذهب‏.‏

ونالت السعادة جميع المماليك المؤيدية الأصاغر بحيث إن بعضهم كان فقيرًا يعيش بالتكدي فأخذ إقطاعًا هائلًا واستقر بوابًا دفعة واحدة وأشياء كثيرة من هذا ذكرناها في غير هذا المحل‏.‏

ثم في يوم الاثنين رابع عشرين شهر ربيع الأول المذكور جلس السلطان الملك الظاهر جقمق بالمقعد المطل على الحوش تجاه باب الحوش المذكور وابتدأ فيه بنفقة المماليك السلطانية لكل ثم في يوم الثلاثاء خامس عشرينه وصل الأمير جرباش قاشق من ثغر دمياط فأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالقاهرة‏.‏

ثم في يوم الخميس سابع عشرينه عمل السلطان المولد النبوي بالحوش على العادة وزاد فيه زيادات حسنة من كثرة الأسمطة والحلاوات وانفض الجميع بعد صلاة المغرب‏.‏

ثم في يوم السبت تاسع عشرينه تجمع تحت القلعة نحو ألف مملوك من مماليك الأمراء يريدون النفقة كما نفق على المماليك السلطانية فأمر لهم السلطان بنفقة فنفقت فيهم ولم يكن لذلك عادة قبل تاريخه‏.‏

ثم في يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الآخر قبض السلطان تاج الدين عبد الوهاب الأسلمي - المدعو بالخطير - ناظر الإسطبل السلطاني وعلى ولديه والثلاثة أشكال عجيبة‏.‏

وفيه كانت مبادئ وقعة قرقماس مع الملك الظاهر جقمق‏.‏

وخبره أنه لما كان يوم الثلاثاء المذكور ثار جماعة كبيرة من المماليك القرانيص ممن كان قام مع الملك الظاهر جقمق على المماليك الأشرفية وطلبوا زيادة جوامكهم ورواتب لحمهم ووقفوا تحت القلعة فأرسل إليهم السلطان يعدهم بعمل المصلحة فلم يرضوا بذلك‏.‏

وأصبحوا من الغد في يوم الأربعاء رابع شهر ربيع الآخر على مواقفهم‏.‏

وركب السلطان ولعب الكرة بالحوش السلطاني مع الأتابك قرقماس الشعباني وغيره من الأمراء إلى أن انتهى لعبهم فأسر بعض من تأمر من المماليك المؤيدية إلى السلطان بأن الأتابك قرقماس يريد الركوب على السلطان فنهره السلطان واستبعد وقوع ذلك من قرقماس لا سيما في هذا اليوم‏.‏

هذا وقد كثر جمع المماليك السلطانية من الأشرفية وغيرهم ووقفوا تحت القلعة كما كانوا في أمسه ثم وقفوا عند باب المدرج أحد أبواب القلعة وصاروا كلما نزل أمير من الخدمة السلطانية اجتمعوا به وكلموه في عمل مصالحهم‏.‏

ووقع لهم ذلك مع جماعة كبيرة من الأمراء إلى أن نزل الأتابك قرقماس فأحاطوا به وحدثوه في ذلك وأغلظوا في حق السلطان فوعدهم قرقماس بأنه يتحدث بسببهم مع السلطان وبش لهم وألان معهم في الكلام فطمعوا فيه وأبوا أن يمكنوه من الرجوع إلى السلطان وكلموه في الركوب على السلطان وهم يوافقوه على ذلك فأخذ يمتنع تمنعًا ليس بذاك‏.‏

وظهر من كلامه في القرائن أنه يريد كثرة من يكون معه وأن ذلك لا يكون في هذا اليوم‏.‏

فلما فهموا منه ذلك تحركت كوامن المماليك الأشرفية من الملك الظاهر جقمق وانتهزوا الفرصة وقصدوا الركوب ووقوع الحرب في الحال بجهل وعدم دربة بالوقائع والحروب وأخذوه ومضوا وهم في خدمته إلى بيته وكار سكنه بملكه بالقرب من المدابغ خارج باب زويلة‏.‏

وتلاحق بهم جماعة كثيرة من أعيان المماليك السلطانية وبعض الأمراء وعليهم السلاح وراودوه على الركوب فلم يعجبه ذلك وقال لهم ما معناه أن له أصحابًا وخجداشية كثيرة وجماعة من أكابر الأمراء لهم معه ميل وغرض ‏"‏ فاصبروا إلى باكر النهار من الغد لنتشاور معهم في أمرنا هذا وفيما نفعله ‏"‏ فامتنعوا من ذلك وأظهروا له إن لم يركب في هذا اليوم لم يوافقوه بعد ذلك‏.‏

وكان جمعهم قد كثر إلى الغاية ولكن غالبهم المماليك الأشرفية‏.‏

وكان الذي قال له ذلك الأمير مغلباي الجقمقي أستادار الصحبة على لسان بعض أصحابه وقيل إن قرقماس أراد بهذا الكلام توقفهم حتى يتفرقوا عنه ثم يصعد هو إلى القلعة ويعلم السلطان بذلك‏.‏

وعندي أن الصحيح أنه لم يرد بقوله هذا إلا تحكيم أمره حتى يأتوه من الغد بجموعهم ويأخذوه غصبًا كما فعل القوم بالملك الظاهر جقمق ويجتمع عليه حواشيه وأصحابه - وأنا أعرف بحاله من غيري‏.‏

فأبو عليه وألحوا في ركوبه في الوقت وخوفوه تفرق من اجتمع عليه في هذا اليوم وكانوا خلائق كثيرة إلى الغاية‏.‏

فنظر عند ذلك في أمره فلم يجد بدًا من موافقتهم وركوبه معهم في هذا اليوم لما في نفسه من الوثوب على السلطنة والاستبداد بالأمر وكان فيه طيش وخفة في صفة عقل ورزانة لا يفهم منه ذلك إلا من له ذوق ومعرفة بنقد الرجال‏.‏

وخاف قرقماس إن لم يركب في هذا اليوم وأراد الركوب بعد ذلك لا يوافقه أحد من هؤلاء فينحل بذلك برمه ويطول عليه الأمر لعظم صفة مظلوم مبتلى غير مرحوم ‏"‏‏.‏

وأحسن من هذا قول القائل وهو لسان حال الملك الظاهر جقمق‏:‏ الطويل وكل أداريه على حسب حاله سوى حاسدي فهي التي لا أنالها وكيف يداري المرء حاسد نعمة إذا كان لا يرضيه إلا زوالها فعند ذلك قام ولبس آلة الحرب هو ومماليكه وركب من وقته قريب الظهر من يوم الأربعاء رابع شهر ربيع الآخر المذكور وخرج من بيته بعساكر عظيمة ومعه أمراء العشرات‏:‏ الأمير أزبك السيفي قاني باي نائب الشام المعروف بأزبك جحا والأمير جانم الأشرفي المعروف برأس نوبة سيدي وكلاهما أمير عشرة‏.‏

وقد وافقه غيرهما مثل الأمير قراجا الأشرفي أحد مقدمي الألوف والأمير مغلباي الجقمقي أستادار الصحبة ووعداه أنهما يوافياه بمماليكهما بالرملة‏.‏

وخرج الأمير قرقماس من بيته بمجموعه فوافيته خارج باب زويلة من غير ميعاد وسرت معه وصحبته عساكر كثيرة من الأشرفية وغيرهم وأنا بجانبه‏.‏

فتأملت في أمره فلم يعجبني حاله لاضطراب عساكره ولعدم من يرأسهم من أعيان الأمراء ممن مرت بهم التجارب وأيضًا لكثرة قلقه في مسيره وعدم ثباته في كلامه‏.‏

وظهر لي منه أيضًا أنه لم يعجبه ما هو فيه من اختلاف كلمة من هو معه من المماليك السلطانية وآرائهم المفلوكة وكثرة هرجهم ثم صار يقول في مسيره‏:‏ ‏"‏ الله ينصر الحق ‏"‏ فيقول آخر‏:‏ ‏"‏ الله ينصر الملك العزيز يوسف ‏"‏ ويقول آخر‏:‏ ‏"‏ الله ينصر الأمير قرقماس ‏"‏ ومنهم من قال‏:‏ ‏"‏ الله ينصر السلطان ‏"‏ ولم أدر أي سلطان قصد كل ذلك في تلك المسافة القريبة من بيته إلى الرملة‏.‏

ثم كشف قرقماس رأسه وصاح‏:‏ ‏"‏ الله ينصر الحق ‏"‏ غير مرة فتعجبت أنا من دعائه لأي حق يريد فلما أن كشف رأسه تفاءل الناس بخذلانه وظهر لي منه أيضًا أنه كان يتخوف من المماليك الأشرفية لما بلغني بعد ذلك أنه بلغه في اليوم المذكور أنهم إذا انتصروا على الملك الظاهر جقمق وملكوا القلعة ضربوا رقبة قرقماس فنفر خاطره من ذلك‏.‏

وكأنه بلغه ذلك بعد ركوبه وشروعه فيما هو فيه فبقي لا يمكنه إلا الإتمام لأن الشروع ملزم والمقصود أنه سار إلى أن وصل قريبًا من جامع السلطان حسن فوافاه الأمير قراجا بطلبه ومماليكه وعليهم السلاح والأمير مغلباي الجقمقي وسارا معه من تحت مدرسة السلطان حسن إلى بيت قوصون تجاه باب السلسلة وكان يسكنه يوم ذاك الأمير أركماس الظاهري الدوادار الكبير وقد أغلقه مماليك أركماس المذكور فقصد قرقماس المذكور عبور البيت المذكور فوجده مغلقًا‏.‏

ثم دخله بعد أمور فإذا بأركماس الظاهري قد خرج من باب سر البيت المذكور ومضى إلى حال سبيله محمولًا لعجزه عن الحركة لوجع كان يعتريه برجليه وأيضًا لم يكن من هذا القبيل‏.‏

وملك قرقماس البيت ودخله وأخذ فيما يفعله مع عساكر السلطان من القتال وغيره فلم ينتظم له أمر ولا رتب له طلب من كثرة الغوغاء والهرج حتى إن باب السلسلة كان مفتوحًا منذ قدم قرقماس إلى الرملة وأخذ بيت أركماس الظاهري والأمير تمراز القرمشي الأمير آخور الكبير لم يلتفت إلى غلقه ولا تحرك من مجلسه ولا ألبس أحدًا من مماليكه السلاح ومن عظم تراخيه في ذلك نسبوه للممالأة مع قرقماس - ولا يبعد ذلك‏.‏

ومع هذا كله لم يلتفت أحد من أصحاب قرقماس إلى أخذ باب السلسلة ولا سار أحد إلى جهته جملة كافية لعظم اضطرابهم وقلة سعدهم‏.‏

كل ذلك والسلطان الملك الظاهر إلى الآن بالقلعة في أناس قليلة من خواصه وهو لا يصدق ما قيل له في حق قرقماس إلى أن حضر قرقماس إلى الرملة وملك بيت قوصون فعند ذلك ركب السلطان من الحوش السلطاني ونزل في أمرائه الصغار وخاصكيته إلى باب السلسلة وجلس بالمقعد المطل على الرميلة وقد صحب معه فرسًا عليه قماش ذهب يوهم به أنه لأجل قرقماس إذا طلع إليه طائعًا وأن قرقماس أرسل يقول له إنه يريد أن يفر من المماليك الأشرفية ويطلع إلى القلعة مسك بهذه الحركة جماعة كبيرة عن التوجه إلى قرقماس من خجداشيته وأصحابه‏.‏

كان هذا الذي فعله الملك الظاهر من أكبر المصالح فإن كان على حقيقته فقد نفع وإن كان حيلة من الملك الظاهر جقمق فكانت في غاية الحسن ومن أجود الحيل‏.‏

ولما جلس الملك الظاهر بالمقعد من الإسطبل السلطاني المطل على الرميلة نزلت جماعة من خاصكيته مشاة وعليهم السلاح وناوشوا القرقماسية بالقتال قليلًا‏.‏

ثم مر السلطان فنودي‏:‏ ‏"‏ من كان من حزب السلطان فليتوجه إلى بيت الأمير آقبغا لتمرازي أمير سلاح ‏"‏ وكان سكن آقبغا المذكور بقصر بكتمر الساقي بالقرب من الكبش تجاه مدرسة سنجر الجاولي ‏"‏‏.‏

فلما سمع الأمراء والمماليك المناداة ذهبوا إلى بيت الأمير آقبغا التمرازي فاجتمع عنده خلائق وجماعة كبيرة من الأمراء‏.‏

فممن اجتمع عنده من مقدمي الألوف‏:‏ الأمير قراخجا الحسني رأس نوبة النوب وحاجب الحجاب تغري بردي البكلمشي المؤذي ومن الطبلخاناه وغيرهم‏:‏ الأمير أسنبغا الطياري وعدة كبيرة‏.‏

ثم أرسل آقبغا التمرازي رأس نوبته لكشف خبر قرقماس ومن وافقه من الأمراء فتوجه المذكور وعاد إليه بالخبر أنه ليس معه من الأمراء إلا قراجا وأزبك جحا ومغلباي الجقمقي وجانم الأشرفي‏.‏

فقال آقبغا‏:‏ ‏"‏ إذن فلا شيء ‏"‏‏.‏

وركب فرسه وركب الأمراء معه بمن انضم عليهم من المماليك السلطانية وساروا إلى أن وصلوا إلى صليبة أحمد بن طولون عند الخانقاه الشيخونية ووقفوا هناك وتشاوروا في مرورهم إلى باب السلسلة وقد ملأت عساكر قرقماس الرميلة فمن الناس من قال‏:‏ ‏"‏ نتوجه من على المشهد النفيسي إلى باب القرافة ثم نطلع إلى القلعة ‏"‏ ومنهم من قال غير ذلك‏.‏

وبينا هم في ذلك ورد عليهم الخبر أن الأمير قراجا ومغلباي الجقمقي خرجا من عسكر قرقماس ولحقا بالسلطان فعند ذلك قوي عزم الأمراء على الطلوع إلى القلعة من سويقة منعم فساروا بمن معهم إلى أن صاروا بآخر سويقة منعم فحركوا خيولهم يدًا واحدة إلى أن وصلوا إلى القلعة بعد أن كبا بآقبغا التمرازي فرسه ثم قام به ولم يفارق السرج‏.‏

وطلعوا الجميع إلى القلعة وقبلوا الأرض بين يدي السلطان فأكرمهم السلطان غاية الإكرام وندبهم لقتال قرقماس‏.‏

فنزلوا من وقتهم بأطلابهم ومماليكهم وقد انضم معهم جميع أمراء الألوف ومخيرها‏.‏

وصف آقبغا عساكره والأطلاب الذين معه وقبل أن يعبي عساكر السلطان صدمته القرقماسية من غير تعبية ولا مصاففة لأن قرقماس لما وقف تجاه باب السلسلة لم يقدر على تعبية عساكره لكثرة المماليك وقلة من معه من الأمراء ووقف هو بينهم في الوسط ولم يكن لمعسكره قلب ولا ميمنة ولا ميسرة وذلك لقلة معرفة أصحابه بممارسة الحروب وتعبية العساكر‏.‏

وكان ذلك من أكبر الأسباب في هزيمة قرقماس فإنه تعب في موقفه ذلك اليوم غاية التعب فصار تارة يكر في الميمنة وتارة في الميسرة وتارة يقاتل بنفسه حتى أثخن جراحه وتارة يعود إلى سنجقه‏.‏

ولم يقع ذلك لعساكر السلطان فإن غالبهم كانوا أمراء ألوف وطبلخانات وعشرات فأما مقدمو الألوف فوقفت أطلابهم تحت القلعة تجاه قرقماس كل طلب على حدته فصاروا كالتعبية‏.‏

وبرزت الأمراء والخاصكية لقتال قرقماس طائفة بعد أخرى هذا مع معرفتهم بمكائد الحروب وأحوال الوقائع وآقبغا التمرازي في اجتهاد يعبي العساكر السلطانية ميمنة وميسرة وقلبًا وجناحين‏.‏

وكان قصده تعبية المجنح فلم يمهله القرقماسية وبادروه بالقتال والنزال من غير إذن قرقماس فتصادم الفريقان غير مرة والهزيمة فيها على السلطانية وتداول ذلك بينهم مرارًا كثيرة واشتد القتال وفشت الجراحات في الطائفتين وقتل الأمير جكم النوروزي أحد أمراء العشرات بوسط الرملة وهو من حزب السلطان‏.‏

كل ذلك ومنادي قرقماس ينادي في الناس‏:‏ ‏"‏ من يأتي قرقماس من المماليك السلطانية فله مائتا دينار ومن يأتيه من الزعر فله عشرون دينار ‏"‏ فكثر جمعه من الزعر والعامة‏.‏

فأخذ الملك الظاهر جقمق ينثر الذهب على الزعر فمالوا إليه بأجمعهم وقال لسان حالهم‏:‏ ‏"‏ درة معجلة ولا درة مؤجلة ‏"‏‏.‏

ثم أمر السلطان بمناد فنادى من أعلى سور القلعة‏:‏ ‏"‏ من كان في طاعة السلطان فليحضر وله الأمان كائن من كان وله كذا وكذا ‏"‏ وأوعد بأشياء كثيرة‏.‏

كل ذلك والقتال في أشد ما يكون‏.‏

ولم يكن غير ساعة جيدة إلا وأخذ عسكر قرقماس في تقهقر وتوجهت الناس إلى السلطان شيئًا بعد شيء‏.‏

وكان جماعة من أصحابنا من الناصرية وقفوا عند الصوة من تحت الطبلخاناه السلطانية حتى يروا ما يكون من أمر خشداشهم الأتابك قرقماس وهواهم وميلهم إليه فإنه قيل في الأعصار الخالية‏:‏ ‏"‏ لا أفلح من هجيت قبيلته ‏"‏ فلما رأوا أمر قرقماس في إدبار وأخذ أصحابه في التفرق عنه انحازوا بأجمعهم إلى جهة باب السلسلة وأظهر كل واحد منهم أنه كان ممن قاتل قرقماس‏.‏

ولم يخف ذلك على الملك الظاهر لكنه لم يسعه يوم ذاك إلا السكات وبالله لقد رأيت الأمير آقبغا التركماني الناصري وهو يحق بزخمته على طلبه ويندب الناس لأخذ قرقماس بعد أن أشرف على الهزيمة وعبرته قد خنقته حتى إنه لا يستطيع الكلام من ذلك‏.‏

ولما كان بين الظهر والعصر أخذ قرقماس في إدبار واضمحلت عساكره وذهبت أصحابه وجرح هو في وجهه ويده وكل وتعب وانفلت عنه جموعه وصار الرجل من أصحابه يغير لبسه ثم يطلع في الحال إلى القلعة حتى ينظره السلطان هذا والرمي عليه من أعلى القلعة مترادف بالسهام والنفوط‏.‏

وكان أصحاب قرقماس في أول حضوره إلى الرميلة اقتحموا باب مدرسة السلطان حسن فلم يقدروا على فتحه فأحرقوه ودخلوا المدرسة وصعدوا على سطحها وأرموا على السلطان بالنشاب والكفيات إلى أن أبادوا القلعيين ومع هذا كله وأمر قرقماس في إدبار‏.‏

وقبل أن تقع الهزيمة على عساكر قرقماس من الذين ثبتوا معه فر العاجل فانهزم عند ذلك عسكره بعد أن ثبتوا بعد ذهابه ساعة ثم انقلبوا الأدبار‏.‏

فما أذن العصر إلا وقد تمت الهزيمة بعد أن جرح خلائق من الطائفتين‏.‏

فكان ممن جرح من أعيان السلطانية‏:‏ الأمير آقبغا التمرازي أمير سلاح والأمير بردي المؤذي حاجب الحجاب برمح أخرق شدقه لزم منه الفراش مدة وأشرف على الموت والأمير أسنبغا الطياري أيضًا من طعنة رمح أصابه في ضلعه وجماعة كثيرة من الخاصكية والمماليك يطول الشرح في تسميتهم‏.‏

وعندما انهزمت عساكر قرقماس أخذوا سنجقه وطلعوا به إلى السلطان قرقماس فلم يعرف أين ذهب فتوهم السلطان أنه توجه إلى جهة الشام فندب آقبغا التمرازي في جماعة إلى جهة الخانقاه فسار إلى أن قارب المرج والزيات فلم يجد في طريقه أثر أحد من العساكر فعلم أن قرقماس اختفى بالقاهرة فعاد‏.‏

وأما الزعر فإنهم لما رأوا الهزيمة على القرقماسية أخذوا في نهبهم توجهوا إلى داره فنهبوها وأخذوا جميع ما فيها‏.‏

وفي الحال سكنت الفتنة وفتحت الدكاكين ونودي بالأمان والبيع والشراء‏.‏

وأخذ أهل الحرس في تتبع قرقماس وحواشيه وندب السلطان أيضًا جماعة من خواصه في الفحص عن أمره‏.‏

وما أمسى الليل حتى ذهب أثر الفتنة كأنها لم تكن وبات الناس في أمن وسلام‏.‏

وأما السلطان فإنه لما تحقق هزيمة قرقماس قام من مجلسه بمقعد الإسطبل وطلع إلى القلعة مؤيدًا منصورًا كأول يوم تسلطن فإنه كان في بحران كبير من قرقماس وشدة بأسه وعظم شوكته وجلالته في النفوس‏.‏

وقد كان الملك الظاهر يتحقق أن قرقماس لا بد له من الركوب عليه لحبه للرئاسة وتشعب رأسه بالسلطنة ولا يمكنه القبض عليع لاضطراب أمره كما هي أوائل الدول فكان السلطان يريد مطاولته من يوم إلى يوم إلى أن يتمكن منه بأمر من الأمور فعجل الله له أمره بعد شدة هالته عقبها فرج وأمن‏.‏